إنجيل شخصي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
29/09/2009 06:00 AM
GMT



أحمد سعداوي
قبل سنوات قامت بلدية باريس، بالاتفاق مع ادارة المترو الفرنسية، بطبع مقاطع شعرية لأشهر شعراء فرنسا على ظهر بطاقات المترو، في سعي منها لتشجيع قراءة الشعر بين المواطنين، والتنبيه الى أهم شعراء فرنسا، مع حالة التراجع (الطبيعي) للشعر في الحياة العامة، بسبب الانحسار النسبي لحضور الكتاب كمصدر اساسي للمعلومات والمعرفة، وغيرها من الاسباب المعروفة.
قراءة مقطع شعري لأيف بونفوا او هنري ميشو أو صلاح ستيتيه وغيره على ظهر البطاقة وانت تركب في المترو، أمر غريب، فهل سترمي البطاقة بعد نزولك من المترو ام تحتفظ بها؟ هذا امر شخصي طبعاً. ولكن القضية العامة هي خروج الشعر من الكتاب والمجلة، وخروجه من قاعات القراءة الى الشارع. الخروج من قداسة الكتاب وهيبته الى (النفايات) المحتملة.
يجب ان يرمي قارئ المقطع الشعري، البطاقة التي دون عليها حال خروجه من المترو، فهذا هو الهدف. الدخول في زوال اللحظة واستخدامها لخدمة شيء يرى نفسه خالداً.
اضفاء طراوة غير استهلاكية على يوميات المواطن الفرنسي، بالامكان قول ذلك، اضفاء شيء من القيمة المتعالية على يوميات خالية من القيمة الراسخة. نسترسل لنقول هذا ايضاً.
ما يهمني هنا اكثر من غيره، هو هذه الرؤية بعيدة المدى لجهاز حكومي او رسمي تابع للدولة، بهدف البناء العام، بناء الانسان، تنمية طاقاته الداخلية، دفعه للتفاعل الايجابي. الخ الخ.
هذه الرؤية البعيدة، تدفع الكثير من المؤسسات لاستثمار الفضاء العام، فضاء الميديا والاعلانات الثابتة في الشوارع والاماكن العامة لوضع عبارات وارشادات وصور ولوحات ترسخ العلاقة مع الحياة. تهدم جدار العدائية بين الانسان وبيئته الاجتماعية. إخراج الثقافة بطابعها النخبوي الى الشارع، ودفع الشارع الى قاعات العروض الفنية او الثقافية.
من ذلك ما قام به ايف بونفوا نفسه، بالاتفاق مع مؤسسة ثقافية اهلية، حين جلس في احدى الساحات العامة بباريس على كتف نافورة، وفتح مجلد اعماله الكاملة وبدأ يقرأ، وكأنه يقرأ لجمهور مفترض يجلس امامه.
في التقرير التلفزيوني الذي تابع بفضول ما قام به بونفوا، انتقلت الكاميرا الى نصف ساعة الى الامام، فوجدنا ان الشاعر مازال مستمراً في القراءة، ولكن الفضول دفع اعداداً من الشباب للجلوس وسماع الشاعر وهو يقرأ، دون ان يشغلوا انفسهم بمعنى هذا العمل (المجنون) الذي يقوم به.
عبرت الكامرا الى وقت لاحق، لنشاهد بونفوا وهو ينهي قراءته ويغلق مجلد اعماله الكاملة، ولكن، وسط حشد كبير، قطع الشارع وتجمهر حول النافورة وامامها، ليرفع الاكف بالتصفيق للشاعر، ثم ليتفرقوا.
ليس لدينا هذه النافورة ولا هذا الشارع، ليس لدينا سوى هامش حياتي بسيط، ولكننا، لو خططنا، لأستطعنا استثمار هذا الهامش، بشكل افضل. أقول ذلك وانا افكر بان الهدف يكتسب في الراهن العراقي خصوصية محلية شديدة، الهدف الثقافي او الجمالي.
نحن نعيش حالة من الاحباط والتشرذم وضعف الثقة بالنفس، واليأس يجثم في الافق العام. وإذا ما كان للثقافة من أهداف واضحة في حياة اي مجتمع، فلا بأس ان يكون احدها هو بث الثقة بالنفس وكشف الرؤية للامكانات الذاتية، وبعث اشراقة حياتية معينة في الفضاء العام. لا بأس ان يكون هذا واحداً من اهداف الثقافة، وإذا لم يكن كذلك، ففي أي وقت لاحق سيكون؟!
سمعت مرة احد الاصدقاء وهو يقرأ عليَّ عدداً من الجمل (المنشطة) كما اسماها، تعود لشخصيات ثقافية واجتماعية متعددة، عرب اجانب، شخصيات رياضية، سياسية، ادباء، شعراء، وغيرهم. كان هذا الصديق يقول لي، انها جمل من (انجيله) الشخصي. هو يتذكر هذه الجمل دائماً لكي يزداد ثقة بنفسه، ولكي يتجاوز حالات الاحباط التي يمر بها، وما اكثرها في حياتنا العراقية.
(بامكان خمسة لاعبين عاديين، من خلال التكاتف والتنسيق، ان يقوموا بانجاز اكبر مما يقوم به خمسة لاعبين موهوبين يعملون بشكل منفرد) هذه مقولة للاعب كرة السلة الاشهر في اميركا كريم عبد الجبار.
(العبقرية واحد بالمئة موهبة، وتسع وتسعون جهد وعرق جبين) كلمة شهيرة اخرى لتوماس اديسون. (غالبية الرجال تفشل بسبب نقص الاصرار على خلق خطط جديدة بدل تلك التي فشلت) جملة اخرى لنابليون هيل.
الانجيل الشخصي لصديقي يحوي العديد من هذه الجمل التي تبدو خلاصات لخبرة قائليها الحياتية والابداعية. وكنت افكر، وانا استمع إليه، جرياً وراء حكاية مترو باريس، بان يكون هذا الانجيل عاماً وليس شخصياً.
ماذا لو فكرت امانة بغداد بنشر جمل مشابهة، تعود لشخصيات ثقافية عراقية وعربية وعالمية، ضمن اللوحات الاعلانية المنتشرة في ساحات وشوارع بغداد، كملحق اجباري على كل لوحة اعلانية، او بلوحات منفصلة وخاصة بهذه الجمل مع ما يناسبها من صور او لوحات معبرة.
ماذا لو نشرنا فقرات من رسالة انتحار عبد المحسن السعدون، ماذا لو نشرنا الجملة اليائسة للملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية، التي لا يرى فيها املاً بولادة امة عراقية، كنوع من التحفيز المضاد. ماذا لو ساهمت مؤسسات الدولة في خلق الخيال العام الدافع نحو التفاؤل والعمل وتغذية روح وطنية تبدو غائبة او ضعيفة في احسن الاحوال.
ان الجمل مجهولة القائل التي نراها كل يوم في لوحات الاعلان الدعائية ضد الارهاب وما الى ذلك، تبقى جملاً مبتورة تحيل الى الدعاية السياسية. وأزمة الحياة العراقية ليست سياسية بالكامل، ولا تحتاج الى نصائح من مجهولين فقط.